رثائية في وداع الطيب صالح .. يا أرض ابلعي فرحك و يا سماء اجزعي


أيتها النفس أجملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

الى روح سيدي

الطيب محمد صالح أحمد مشاوي

عاش محباً محبوباً ، و مات راضياً مرضياً

من إهداء الطيب صالح لوالده في رواية "مريود" بتصرف ضروري

سيدي ..لا اعرف كيف اكتب فيك اليوم
لا اعرف ماذا اكتب فيك اليوم
أنت فوق الكلمات
حزني فوق الكلمات
لكني إن لم أكتب فسأموت ..
سامحني يا سيدي ..
لابد ان اكتب ..
ستخرج حروفي عرجاء ..
مبللة كأنها عجين لا تكاد تبين ..
مفككة من البكاء ..
لكنها لابد ان تخرج ..
سامحني


[1]
"كان فناء المدرسة الوسطى ساكنا خاويا وقت الضحى، فقد أوى التلاميذ إلى فصولهم. و بدا من بعيد صبي يهرول لاهث النفس، و قد وضع طرف ردائه تحت إبطه حتى وقف أمام باب السنة الثانية و كانت حصة الناظر." يا ولد يا حمار. إيه أخرّك ؟ "و لمع الحزن في عيني الطريفي :" يا فندي سمعت الخبر ؟ "" خبر بتاع إيه يا ولد يا بهيم ؟ "و لم يزعزع غضب الناظر من حزن الصبي، فقال و هو يغالب دموعه :" الطيب مات "

من رواية "عرس الزين " بتصرف ضروري

[2]
سيدي الطيب يحمل ابداعه و يرحل خلف مصطفى سعيد ..يلج النهر..هل مات مصطفى سعيد ؟لا احد يعلم ..لكنه يقيناً اختفى ..سيدي الطيب الصالح حمل مصباحه و توغل في الغياب خلف مصطفى
الأن يصمت مصطفى سعيد ..ينفض المجلس من أمام دكان سعيد البوم الذي صار اسمه عشا البايتاتتنحني النخلة على الجدول تحاول عبثاً أن تعزيه ..مريود يعانق بندر شاه و ينوح ..الشيخ نصر الله ود حبيب يسترجع و يشكو حزنه لله
كرمكول لم تعد سوى قرية يتيمة في الشمال .. فقد ذهب نبراسها

[3]
اليوم يا سيدي نكتب فيك و قلوبنا تحترق
لطالما امتعتنالطالما افدتناأفاليوم توجعنا يا سيدي ؟
متصل بقلبي لوعتك يا سيدي ..فإلى الله تعزيتي عنك ..و لديه ثواب حزني عليك ..ما اغني عنك من الله شيئاً ..و لو وجدت لوقيتك بنفسي ..لكن أمر الله ينفذ ..و القلب منفطر ..و العين جارية ..و من فقدك لا سلوى
في مثلك قال القائل :فلئن بكيناه لحقّ لنا و لئن تركنا ذاك للصبرِفلمثله جرت العيون دماً و لمثله جمدت فلم تجرِمن فمك الشريف سمعت هذا الشعر ..و عنك حفظته ..من قائله ؟لست ادريحسبي أن أرويه عنك ..و فيك
يا سيدي ما حسبت الرجل يُثكل ..لكنّا اليوم بفقدك ثكلى ..نشق جيوب الكلمة ..نلطم خدود الحرف ..و نحثو الحبر على رؤوسنا ..

[4]
لم تكن يا سيدي تعلم حين كنت تخطو صبيا أغبشا ممزق الجلباب في رمال كرمكول أنك ستكون أسطورة ..كنت كغيرك من الاطفال ..تخرج ليلا لتتبع سيرة إسماعيل صبير التي لم تنسها قط ..إسماعيل صبير كان شقيقا لسبع فتيات ..اخته زينب (غفيرة ) كانت تغني سيرة عرسه ..حتى في بلاد الضباب يا سيدي لم تنس تلك السيرة و قلت إنها أجمل ما سمعت في حياتك و أنت من سمع أشهر المغنين و أندى الأصوات في افخم المسارح ..لكن غناء نسوة كرمكول في ليلة قمرية كان عندك اجمل من الاوبرا ..
لقد خرجت من كرمكول و من السودان لكنك حملتهما معك ..في قلبك أينما حللت ..ألم تكن الكسرة بمفروكة هي وليمة بيتك الانجليزي المفضله ؟و رغم برد لندن ظل صوت الرواويس بداخلك

[5]
ايها الوفي ما كنا لك بذات الوفاءفي ليلة ذات عودة اجتمع حولك شيوخ كرمكول ..قالوا لك سمعنا انك صرت كاتبا مشهورا فحدثنا يا ود محمد صالح بما كتبتقرأت عليهم قصصك التي جعلت اسمك على كل لسان و بكل لغة ..فنظروا الى بعضهم في دهشة ..ثم نظروا اليك ..قالوا لك :" دي ما ياها حكاوينا زاتا بس عملت ليها شوية حاجات "فقلت ضاحكا :" بس الحاجات دي هي زاتا البيسموها أدب "هل صمتت تلكم الضحكة يا سيدي ؟
ليت لي جناحان فأطير الآن إلى كرمكول ..لأراها كيف هي في ذهولها ..فالرجل الذي خلدها ذهب ..لولا قلمك يا سيدي الطيب لما عرف احد في الدنيا محجوب المبارك .. كان سيعيش و يموت مثله مثل غيره من اهل الشمال .. لكنك جعلت محجوب اسما ادبيا ..لولاك يا سيدي لما عرف احد " الفضل " الذي شهرته باسم " الزين " ..من غيرك كان سيحكي عن صيحة الفضل الشهيرة " يا ناس انا مكتول في حوش العمدة"؟

[6]
رحم الله فتح الرحمن البشير ..صديقك المقرب الذي اهديته "دومة ود حامد " امتناناً لفضله ..فتح الرحمن البشير كان الرجل الذي ساعدك على الذهاب الى بلاد الانجليز ..لتسطع من هناكلتكتب لنا عن شيلا وايزابيلا سيمور و جين مورس المرأة الرهيبة ..المحيرةيا فتح الرحمن ..اوتدري أي فضل لك علينا ؟اوتدري أي شمس اشعلت ؟طبت و طاب ما فعلت

[7]
الان سيهرع الناعون يا سيدي و حبيبي ..سيتركوك تثوى في بلاد الانجليز و لن يهتموا بدفنك هنا ..لو كان الامر بيدي لجلبتك لتدفن في مقابر ود بوبا بكرمكول ..مباشرة اسفل القبة ..لكنهم لن يهتموا بذلكسيصدر بيانا رسميا ينعيك لنا كأنما حزننا ينتظر بياناً ..
سيقول قوم أنهم رشحوك لتنال جائزة نوبل لكنك تعجلت الرحيل ..و هم لم يرشحوك للجائزة ..بل رشحوا الجائزة لك ..و انت لم تتعجل ..فأنت كنت أمامهم كل هذه السنوات ..لكنهم عجزوا ان يرفعوا بك رأساً

[8]
الى امير تاج السر محمد نور بدوحة قطر ..يا بقية من سيدنا ..اشعل" نار الزغاريد" و أطلق " عواء المهاجر" و اخرج لـ "صيد الحضرمية" فقد ذهب خالك الطيب الصالح و تركنا يتامى ..فخذ بيدنا يا أيها الأمير ..لا تتركنا ..اخرج يا رجل ..فمثلك لا تمسكه عيادة نائية ..خالك أيتمنا ..فكن لنا مكانه ..بحق سيدنا الطيب ..اخرج


[9]
سيدي ..حين اتاني الخبر كانت الدنيا متوشحة ظلامها ..بلا شك ..خبرك لا يأتي الا و الدنيا متوشحة ظلامها ..ذهلت ..حملت هاتفي و اخذت اتلفت ..بمن اتصل الان لينفي لي الخبر ؟انهم نيام لا يعلمون ما يقال ..أيموت الطيب صالح ؟ما اكذبكم ..فبقيت يا سيدي انتظر شمسا أشرقت مظلمة لاتصل بمن يقول لي إن مريود مازال بيننا حيا
و جاءت الشمس تحمل حزنها ..فكذبتها ..اتصلت بأكثر من شخص ..في السودان ..و خارجه ..أقاربك ..أصدقاءك ..ابحث عن شخص واحد يقول لي كلا ..ابحث عن شخص واحد ينفي..ابحث عن شخص واحد يقتل أحزاني ..فلم اجدكلهم قالوا لي احسن الله عزاك
كلهم قالوا لي .. مات
ليتهم كذبوا عليّ يا سيدي

ليتهم ما صدقوني القول ..

[10]
" فجأة انتبهت و كأنني استيقظ من حلم"

من رائعة سيدي الطيب "منسي "و أنا ايضا انتبهت ..و كأنني استيقظ من حلم فاذا سيدي الطيب يموت ..

يصمت ..

و يكف قلمه

يا لهف نفسي عليك يا سيدي

[11]
" أما اذا كرهته فأنت في مأمن ، و أكثر الكارهين له إما محب في حقيقته أصابه الرعب من طغيان ذلك الحب ، فهو يتصنع الكراهية ، و إما جاهل به و بشعره فليس عليه حرج"من رائعة سيدي الطيب " في صحبة المتنبي و رفاقه "و كذلك من كرهك يا سيدي

هو اما محب فزع من طغيان محبتكاو جاهل لا يدري عنك شيئا فهو معذوراما أنا فياحسرتي بحبك و قد ذهبت

[12]
ارتفع صوته فجأة ذات يوم في جمع عظيم من الرجال نفرهم العمدة لإصلاح حقله.ارتفع صوته المبحوح الحاد، كما يرتفع صوت الديك عند طلوع الفجر :" عوك يا أهل الحلة. يا ناس البلد. الطيب صالح مات "

من رواية "عرس الزين " بتصرف ضروري

مات الزين ( الفضل)مات العمدة( سعيد ميرغني)و مات الطيبيا لروايات الاحزان التي تركتها لنا يا سيدي

[13]
" يا الطيب ، يا الطيب. لماذا تريد أن تحزننا برحيلك ؟ "

من رواية "مريود" بتصرف ضروري

[14]
" و سلطان الموت لا يطال. أماانا فقد كنت حزينا بشكل اخر "

من رائعة سيدي الطيب " مريود "هل كنت تحكي عنا في يومنا هذا ؟

[15]
الطيب ود محمد صالح مشاوي

طبت حيا ..

طبت ميتا ..

طبت فينا ..

دوما يا سيدي